د/مصطفى محمود |
الحشرات التي نراها الآن صغيرة دقيقة ضئيلة كان لها عند ميلادها شأن آخر .
منذ 300 مليون سنة كان الصرصور طوله نصف متر، وكانت حشرة أبو المقص الجميلة الرقيقة التي تراها طائرة هفهافة على موارد الماء، كانت حين ذاك تقارب المتر طولًا، وكان أزيز طيرانها يُسمَع على بعد عدة كيلو مترات كأنها طائرة منقضة تزمجر بمحركاتها .
ولكن صراع البقاء لم يَدع من هذه الحشرات إلا السلالات الأصغر حجمًا .. كانت هي التى أفلتت من الإلتهام .. وكانت هي الأقدر على الصيام الطويل والإختباء والتكيُّف مع الظروف المتغيرة .
وأقدر الكل ولا شك .. كانت الصغيرة الضئيلة التي اسمها النحلة .
هل ألقيت نظرة على خلية نحل ؟ .. إنها نظرة تستحق المخاطرة ..
على الباب سوف تجد الحراس شاكى السلاح ( و من جرب لسعة زبان نحلة يعرف ما هو ذلك السلاح الذي يحمي به النحل دياره ) .
وسوف تجد عددًا من النحل لا عمل له إلا الضرب بأجنحته باستمرار لدفع الهواء النقي إلى داخل الخلية لتجديد هوائها .
فإذا دخلت خطوة ربما رأيت فأرًا ميتًا لقي مصيره نتيجة شهيته التي لم يستطع مقاومتها إلى تذوق العسل، وهي مذبحة في العادة لا تستغرق أكثر من دقائق يتحول بعدها الفأر إلى حيوان مشلول تمامًا نتيجة لسع النحل، ثم يموت .
ولكن المنظر المثير حقًا هو منظر مَلِكتين من ملكات النحل تتبارزان حتى الموت وحولهما بقية شعب الخلية يتفرج في رهبة ولا يتدخل، فالخلية لا تتسع إلا لملكة واحدة، وعلى إحدى الملكتين أن تموت أو ترحل لتبني خليتها وحدها .
ويبدو أن النحلة مهندسة عظيمة .
تلك الجدران الجميلة المقسمة إلى آلاف الغرف السداسية البديعة ذات الهندسة المحكمة حيث تضع الملكة بيضها كل بيضة في غرفة، ويرعى جيش النحل العامل هذا البيض حتى يفقس إلى يرقات، فيطعمه بالعسل حتى يتحول إلى عذارى، فيغطيه بالحرير ويغلق عليه غرفاته حتى يستوي عوده ويتحول إلى نحل بالغ، فيخرج ليشارك في نشاط الخلية .
وثمة غرفات خاصة لخزن العسل والشمع ..
وغرفات خاصة واسعة لإيواء الأميرات بنات الملكة ..
ثم جيش عاطل من الذكور لا عمل له الإ ساعة التلقيح حينما تطير الملكة خارجة من الخلية في الربيع، فيتبعها ذلك الجيش، وتظل ترتفع في طيرانها تساعدها أجنحتها الطويلة القوية في حين يتسابق خلفها الذكور، ويَهلَك الواحد منهم بعد الآخر تعبًا في تلك المطاردة غير المتكافئة ويتساقطون تِباعًا حتى يبقى واحد هو أقواهم، فتهبط إليه الملكة وتستسلم له ليلقحها ثم يموت بدوره ..
وتعود الملكة حبلى لتضع بيضها ، وتبدأ القصة من جديد .
تنظيم دقيق، وتوزيع صارم في الوظائف، وتعاون إلى درجة الفِداء .
لا بد أن هذه النحلات تتفاهم فيما بينها بلغة ما. ومن بين اللغات المحتملة .. الرقص ..
وسوف تُدهَش حينما تعلم أن هذه اللغة هي الرقص .
بالإشارة واللفتَة والحركة والرقص يتكلم النحل .
هذه النحلة العائدة من الحقول اكتشفت زهورًا قريبة مليئة بالرحيق، والإشارة التي سوف تُعبِّر بها عن هذا الاكتشاف هي .. أن تدور راقصة في حركة دائرية وهي تخفق بجناحيها ثم تضع قطرة من الرحيق، فيشمها النحل العامل ليحفظ رائحتها جيدًا ثم ينطلق إلى الزهور، فإذا كانت الزهور المكتشَفة بعيدة على مسافة أكثر من مائة متر، فإنه لا بد أن تشير النحلة إلى مكانها بالضبط، ولهذا فهي ترقص على شكل دائرة يشقها خط إلى نصفين .. وهذا الخط سوف يشير إلى اتجاه الحقل الذي فيه الزهور ..
وهي سوف تمشي على هذا الخط وهي تهز بطنها هزات سريعة إذا كان الحقل على مسافة متوسطة، وبطيئة إذا كان على مسافة كبيرة .. وعيناها ستكونان دائمًا ناظرتين إلى اتجاه الحقل .
وسوف يفهم النحل العامل الإشارة وينطلق إلى حيث يشير الخط على يسار الشمس أو عن يمينها وبنفس الزاوية التي رسمَتها النحلة في أثناء رقصها، فيصل إلى المكان تمامًا .
ولا شك أن النحلة المهندسة كيميائية عظيمة، لأنها استطاعت أن تصنع السم والعسل، واستطاعت أن تجهز الشمع والرحيق ..
إن لها يدين تستحقان التقبيل .
ويا لهما من يدين !
إن كلا منهما ملعقة وفرشاة ومكنسة وكماشة وخرقة ممتازة للتنظيف والمسح .. إنهما لتقومان بعشرات الوظائف في وقت واحد ..
والجناحان .. إنهما مزودان بعضلات مذهلة تنقبض لتضرب النحلة الهواء خمسمائة مرة في الثانية ..
أي مخلوق رائع !!
وأي مجتمع !
وأي نظام !
إنهم ليأخذون من كلٍ حسب طاقته، ويعطون لكلٍ حسب حاجته. وكأنما نحن في كوميون خيالي من الكوميونات التي يحلم بها ماوتسي تونج، ولسنا في خلية نحل ..
وهذه هي الحشرة ..
نفس الحشرة التي يذكرونها في مقام السخرية، فيقولون لأحقر الناس شأنًا : أنت حشرة .. وإنها لسخرية ليست فى محلها ..
وأحسب القارئات لن يغضبن كثيرًا هذه الليلة إذا قال لهن الأب الغاضب : أنتن حشرات، فحشرة النحل ملكة وإمبراطورة عظيمة، يخضع لإشارتها الكل .
وهي سيدة جميع الذكور، تحشدهم جميعا لخدماتها، وتختار أقواهم لتتزوجه وبعد أن يلقحها يموت ..
وأنثى العنكبوت تفعل أكثر من هذا، فتأكل ذكرها بعد التلقيح .
إن فكرة أن تكون الواحدة حشرة ليست سيئة بقدر ما نعتقد ..
صحيح أن حشرة دودة القطن تأكل القطن وتأكل العملة الصعبة .. ولكن دودة القز تصنع الحرير .. والفَراش يلقح الزهر، فيثمر الشجر .. والنحلة تصنع العسل ..
وفي النهاية تلد الحشرة الواحدة 16 مليون إبن وبنت في أيام معدودة .. إنه لشعب .
لا أظنها فكرة رديئة أن تجرب امرأة أن تنتمي لهذا الجنس الرهيب الذي غزا البر والبحر والجو، والذي عاش في كل بيئة، وقاوم البروق والرعود والحر والبرد والصقيع .
ذلك الجنس الذي توجد فيه كل النظم الاجتماعية والسياسية وكل أنماط السلوك والأخلاق ..
ذلك الجنس العاقل بلا عقل .. المتعلم بلا علم ..
إنها ولا شك تكون تجربة مثيرة .
د_مصطفى_محمود
من كتــاب " لغـز الحيـــاة "
تلخيص : شريف الشوادفي شريف
تعليقات